أطلقت دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي موسم التنقيب الأثري لعامي 2023 – 2024 بالإعلان عن أحدث اكتشافاتها في جزيرة ساس النخل، والتي تشير إلى أنّ الاكتشافات الحالية ليست سوى جزء صغير ممّا يُتوقَّع اكتشافه من ثقافة العصر البرونزي في منطقة "أم النار" في أبوظبي، والتي كانت سائدة في الحقبة الزمنية ما بين 2700 – 2000 قبل الميلاد.

وتؤكّد اللُّقى الأثرية الأخيرة التي عُثر عليها في الإمارة أهمية الدور الرئيس لأبوظبي في التجارة الإقليمية والعالمية، حيث تسلط الاكتشافات الحديثة الضوء على مرونة وابتكارات مجتمعات العصر البرونزي التي استوطنت المنطقة، وتساعد على بناء صورة أكثر وضوحاً واكتمالاً لتاريخ آثار دولة الإمارات العربية المتحدة.

وتشير مكتشفات مواقع التنقيب في أبوظبي إلى استخدام الحضارات القديمة للموارد الطبيعية بشكل مستدام مدروس ومبتكر، مثل النحاس واللؤلؤ والجص والمياه العذبة، لتيسير التجارة الدولية وتعزيز رفاه المجتمعات وتحقيق الرخاء.

تقع جزيرة ساس النخل بالقرب من وسط المدينة الحديثة، وتعرف محلياً باسم "أم النار" كناية عن الرماد والتربة الداكنة الناتجة عن الحرائق التي تغطي مساحات واسعة من الموقع، ونظراً لكونها الموقع الأول من هذه الحقبة الزمنية الذي تمّ التنقيب فيه في المنطقة، فقد أعطت الجزيرة اسمها "أم النار" لحضارة العصر البرونزي.

وبعد مرور حوالي 65 عاماً على إجراء التنقيبات الأثرية الأولى في أبوظبي في هذا الموقع، بدأت عمليات التنقيب الجديدة في ساس النخل، كما يتضمن برنامج التنقيب الأثري الحالي أيضاً أعمالاً في مواقع مختلفة في جميع أنحاء أبوظبي، بما في ذلك مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو في العين.

تضمّنت اللُّقيات التي عُثر عليها مؤخراً نتيجة التنقيب في المنطقة مجموعة محفوظة جيداً تضم أكثر من 30.000 قطعة عظمية تتيح معرفة المزيد من المعلومات حول النظام الغذائي الذي كان سائداً في العصر البرونزي، حيث يتكون هذا النظام الغذائي في الغالب من الأسماك والطيور البحرية، بينما كانت أبقار البحر (الأطوم) من الأطعمة النادرة. وقد عُثر على عظام بعض الحيوانات الكبيرة حول مدفأة دائرية كبيرة ما يشير غالباً إلى ممارسة أنشطة جماعية أو احتفالية، أو إلى أنّ هذا المكان كان مخصّصاً لتجمّع الناس من أجل تناول الطعام. وتم تحويل بعض العظام إلى أدوات مفيدة مثل الملاعق ومغازل الخيوط التي تصنع من ألياف نباتية أو من الصوف.

تشمل الاكتشافات الحجرية الرّحى والأحجار المصقولة والفؤوس والخرز، ووعاء من الحجر الناعم، بالإضافة إلى أقراص حجرية دائرية مثقوبة كانت تستخدم لتثقيل شباك الصيد، بينما تتضمن اللُّقيات النحاسية مطرقة صغيرة أو إزميلاً وخطافات صيد.

كما عُثر على عدد كبير من الأواني الفخارية التي تم استيرادها من مناطق بعيدة مثل بلاد ما بين النهرين القديمة (العراق حالياً) وحضارة وادي السند (باكستان والهند حالياً)، ما يؤكّد الدور المحوري للجزيرة في التجارة التي كانت سائدة بين المناطق البعيدة آنذاك.

وتمّت مطابقة البيتومين (القار) الموجود في الموقع مع مصادر في بلاد ما بين النهرين القديمة، حيث استخدم في صناعة الفخار المقاوم للماء بالإضافة إلى حفرة تخزين مبطنة بالطين، كما تشير الآثار على الحبال والأخشاب إلى استخدام القار في العزل المائي لهياكل القوارب من العصر البرونزي، ما يُعد دليلاً على ازدهار الملاحة البحرية لفترات زمنية طويلة، كما تشير هذه الاكتشافات المهمّة إلى أن جزيرة ساس النخل كانت ميناءً بحرياً مزدهراً خلال الفترة من 2800 إلى 2200 قبل الميلاد، وعلى درجة كبيرة من الأهمية بسبب أنشطتها التجارية مع بلاد ما بين النهرين ووادي السند، بالإضافة إلى وجود مقابر أثرية واسعة فيها.

من جهته، قال معالي محمد خليفة المبارك، رئيس دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي: "كان الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد "طيب الله ثراه" شغوفاً بتاريخ دولتنا، وأسهم في تعزيز فهم أكثر شمولاً ووضوحاً لتاريخ أبوظبي. ونؤكد في الدائرة على أهمية الاكتشافات الأثرية الجديدة ضمن الموسم الحالي للتنقيبات الأثرية والتي تبرز مكانة ساس النخل "أم النار" على طرق التجارة الدولية من جهة، والوعي البيئي المبكر لدى الإماراتيين القدماء بأهمية الاستدامة، والانسجام التام مع الطبيعة المحلية وكائناتها ومواردها".

وتابع معاليه: "هذه الاكتشافات المهمة، وما تظهره من استخدام مستدام لخيرات المكان الإماراتي منذ القدم، تأتي لتعكس التزامنا العميق في الدائرة بإبراز قيم الاستدامة والحفاظ على مواردنا الطبيعية".

شهدت جزيرة ساس النخل أول أعمال التنقيب الأثري في دولة الإمارات العربية المتحدة والتي تمت في عام 1959 من قبل مجموعة من علماء الآثار الدنماركيين بدعوة من حاكم أبوظبي آنذاك الشيخ شخبوط، ما يؤكّد الاهتمام البالغ من قيادة أبوظبي بالتاريخ. وقد كشفت الحفريات عن مقابر ضخمة مبنية بالحجارة مرتبطة بنوع غير معروف من قبل من المقابر الجماعية.

واليوم، بعد مرور حوالي 65 عاماً، يكشف علماء الآثار في دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي عن أدلة على وجود منازل ومبانٍ أخرى، بالإضافة إلى بقايا العظام والمجوهرات وثقالات شباك الصيد والأسلحة النحاسية محلية الصنع والمستوردة، والفخار المزخرف بشكل متقن، ما يشير إلى ازدهار مستوطنة متطورة آنذاك من خلال التجارة البحرية القديمة للنحاس من جبال "الحجر" المحلّية منذ 3000 إلى 4000 عام.

 

وما زالت الاكتشافات المهمة والجديرة بالملاحظة على المستوى الدولي، التي قام بها علماء الآثار في دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي في الجزيرة، تسهم في تغيير الصورة العالمية للمنطقة بأكملها، بما في ذلك الاكتشافات التي تشمل المدافن والمباني التي تعود إلى العصر البرونزي، وأنظمة الري المعقدة تحت الأرضية "الأفلاج". ويعتقد علماء الآثار أن هذه الاكتشافات الأخيرة لا تشكّل سوى جزء صغير مما هو موجود تحت الأرض، وسيعملون على استكشافه.

يوجد حالياً سبعة مواقع للحفريات الحية في مختلف أنحاء أبوظبي، ويتضمن موسم 2023-2024 عمليات تنقيب في كلّ من العين وساس النخل وجزيرة غاغا التي تقع في أقصى غرب دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث اكتشف علماء الآثار في دائرة الثقافة والسياحة هياكل يعود تاريخها إلى 8500 عام، بالإضافة إلى جزيرة دلما حيث يقوم الباحثون بالتنقيب عن آثار مستوطنة قديمة عمرها 7000 عام.

ويعدّ علم الآثار عنصراً أساسياً في رؤية دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، وتسلط مبادرات الدائرة في مجال الآثار الضوء على جذور الثقافة الإماراتية، حيث تحافظ الاكتشافات المستمرة على التقاليد القديمة والتراث والابتكارات التي شهدتها هذه الأرض، ما يسهم في تعزيز تاريخ الإمارة بصفتها ملتقى طرق الحضارات، ومكاناً للتفاعل التجاري والديني والثقافي المتنوع.

جدير بالذكر أنه اُفتتحت في الآونة الأخيرة مواقع ثقافية جديدة أمام الجمهور مثل متحف جزيرة دلما الذي يوثق تجارة اللؤلؤ القديمة في الجزيرة، وكذلك اُفتتح مركز جديد للزوار في جزيرة صير بني ياس، يعرض ديراً وكنيسة مسيحيين من القرنين السابع والثامن، الأمر الذي يوفّر للجمهور فرصاً فريدة للتفاعل مع تاريخ أبوظبي.

وستُعرض الاكتشافات الحديثة التي عُثر عليها في "أم النار"، وغيرها من المواقع الأثرية الهامة في جميع أنحاء الإمارات، في متحف زايد الوطني المقرّر افتتاحه في المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات بأبوظبي. وسيحتفل متحف زايد الوطني بالتاريخ القديم والمعاصر للإمارات، الذي يسلط الضوء على إرث الوالد المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيّب الله ثراه".