حقَّق مركز أبوظبي للصحة العامة نجاحاً في استخدام نموذج المصيدة الذكية لمكافحة البعوض، في خطوة تعكس التزام المركز بتعزيز الاستدامة والابتكار في مجال حماية الصحة العامة.

 وتمثِّل المصايد الذكية تحوُّلاً جذرياً في طريقة رصد أعداد البعوض ومتابعتها والسيطرة على تكاثرها. وتأتي هذه المبادرة استجابة للتحديات المتنامية التي تفرضها التغيُّرات المناخية، وتوسُّع رقعة الحضر، وزيادة حركة السفر، وانتشار سلالات من البعوض مقاومة للمبيدات.

تعتمد المصايد الذكية على تقنية عالية تحاكي انبعاثات جسم الإنسان، فتجذب إناث البعوض الباحثة عن الدم من خلال إطلاق ثاني أكسيد الكربون، واستخدام جاذب كيميائي يحاكي رائحة الإنسان. وما أن تقترب حتى تُسحَب بمروحة وتحتجز ضمن شبكة تجميع، دون استخدام أيِّ مواد كيميائية.

والمصايد الذكية مزوَّدة بأجهزة استشعار وأنظمة نقل بيانات لاسلكية، لإرسال معلومات فورية تشمل عدد البعوض المَصيد ودرجة الحرارة والرطوبة والوقت إلى قاعدة بيانات سحابية مركزية. وتُحلَّل هذه البيانات بأدوات ذكاء اصطناعي، وتقدَّم إلى فِرق المكافحة لتمكينهم من اتخاذ قرارات مدروسة في الوقت المناسب، استناداً إلى أنماط السلوك الحيوي للبعوض وتغيُّراته البيئية.

وتمثِّل هذه المصايد نقلة نوعية في علم الأوبئة الحشرية، حيث تُتيح للمرة الأولى إمكانية تتبُّع تزايد أعداد البعوض وتحليل أنماط نشاطه اليومية والموسمية بدقة غير مسبوقة، مع تسجيل تأثير العوامل البيئية من درجات الحرارة المرتفعة ومعدلات الرطوبة.

وسجَّلت شبكة المصايد الذكية نتائج عالية منذ بدء استخدامها في أبوظبي عام 2020، فازدادت كفاءة اصطياد البعوض بنسبة تجاوزت 400%، حيث ارتفع متوسط عدد البعوض المَصيد في المصايد الذكية من 60 بعوضة (في المصايد التقليدية) إلى أكثر من 240 بعوضة لكلِّ مصيدة ذكية.

وأسهمت هذه التقنية في خفض عدد بؤر التوالد المسجَّلة بنسبة تجاوزت 42%، وانخفاض المواقع النشطة لتكاثر البعوض في عام 2024. ولم يكن هذا الانخفاض ليحدث لولا المعلومات الدقيقة التي وفَّرتها المصايد عن أوقات ذروة النشاط ومواقع الانتشار.

ومن أبرز مَيزات هذه المصايد أنها لا تكتفي برصد البعوض فحسب، بل تُستخدَم كأداة تحليلية لفهم تغيُّر أنماط السلوك الحيوي للبعوض عبر الزمن. ومن خلال تتبُّع التغيُّرات في أعداد البعوض في مواقع محددة على مدى الأسبوع أو الشهر، تمكَّنت فِرق المكافحة من تحديد ساعات الذروة بدقة، وحدَّدت العلاقة بين ارتفاع درجات الحرارة وزيادة أعداد البعوض، أو بين الرطوبة وفاعلية التكاثر.

وفتح هذا التحليل آفاقاً جديدة لأبحاث الأمراض المنقولة بالنواقل، لا سيما تلك المرتبطة بحمى الضنك والملاريا وفيروس زيكا، حيث أصبح بالإمكان توقُّع مخاطر تفشِّيها بناءً على أنماط تكاثر الحشرات.

وساعدت دقة المصايد على تحديد الأماكن والأوقات المناسبة للمكافحة على خفض استهلاك المبيدات بشكل كبير، حيث انخفضت كميات المبيدات الحشرية المستخدمة بنسبة 31% من نحو 7.5 أطنان في عام 2019 إلى 5.3 أطنان في عام 2024، وهو ما انعكس إيجابياً على البيئة؛ إذ قلَّل تعرُّض الحشرات غير المستهدفة من النحل والفراشات والمفصليات المفيدة إلى المبيدات، ما أسهم بدوره في تعزيز التنوُّع البيولوجي في المناطق الحضرية والزراعية، حيث سجَّلت فِرق الأبحاث الميدانية تحسُّناً في التوازن البيئي الطبيعي نتيجة تقليل التأثير الكيميائي.

وأسهمت المصايد الذكية أيضاً في تقليل استهلاك وقود المركبات المستخدمة في عمليات الرش والمراقبة بنسبة تجاوزت 28%، حيث انخفض الاستهلاك من 630,312 لتراً في 2019 إلى 452,000 لتر في 2024. وأسهم ذلك في تقليل الانبعاثات الناتجة عن حرق الوقود، ما ينسجم مع توجُّه إمارة أبوظبي نحو الحياد الكربوني والتنمية المستدامة.

ويُضاف إلى ذلك أنَّ أكثر من 94% من مكوِّنات المصايد مصنوعة من مواد قابلة لإعادة التدوير، وهي تعمل بالكامل بالطاقة الشمسية، ما يجعلها من أكثر التقنيات مراعاة للبيئة لمكافحة النواقل الحشرية.

ومنذ بداية الأبحاث التجريبية عام 2019 حتى اليوم، تمكَّنت أبوظبي من بناء شبكة متكاملة تضمُّ أكثر من 920 مصيدة ذكية تغطّي المناطق السكنية والمزارع والمناطق الصناعية، وتوفِّر معلومات فورية، ما يجعلها إحدى أكثر شبكات رصد البعوض تطوُّراً ودقة في العالم. وبلغت التكلفة الإجمالية لتشغيل هذه الشبكة خلال ستة أعوام نحو 12 مليون درهم، ما يعكس كفاءة استثمارية عالية مقارنة بنتائجها البيئية والصحية والاقتصادية.

وشُكِّلَت فِرَق مخصَّصة لرصد ومكافحة البعوض، وخصوصاً الزاعجة المصرية لضمان تغطية جميع مناطق وبؤر تكاثر البعوض المحتملة. ويُكرَّر الكشف عليها أسبوعياً أو شهرياً لضمان السيطرة الكاملة على دورة حياة البعوضة، وتُخصَّص فِرَق دائمة للمناطق الصناعية للحدِّ من تكاثر البعوض في الورش والمصانع والمجمعات العمالية. وشملت زيادة قدرات مكافحة البعوض توسيع الكادر الوظيفي بنسبة 63% وزيادة المعدات والأدوات بنسبة 187% والمركبات بنسبة 71%.

وفي ظل تزايد التحديات العالمية المرتبطة بانتشار البعوض والأمراض المنقولة، باتت النماذج الذكية التي اعتمدتها أبوظبي محطَّ اهتمام عالمي، حيث تُجري دول عديدة حالياً تجارب ميدانية لمحاكاة النموذج الإماراتي في مدنها، بعد إثبات فعاليته في توفير التكاليف التشغيلية وتقليل الاعتماد على المبيدات مع تحقيق مستويات رصد غير مسبوقة.

ويعكس نموذج المصايد الذكية في أبوظبي تكامل التكنولوجيا مع السياسات البيئية والصحية، حيث يجمع الحل المستخدم في الإمارة بين الدقة العلمية والابتكار التقني والحِرص على البيئة، لتقديم حلٍّ متكامل ومستدام لمواجهة إحدى أخطر المشكلات الصحية العالمية.